المدينة والفوضى

بقلم : اروى بهجت …

 تعتبر المدن هى أكبر المراكز الحضرية، و تقدم عمارة المدن صورة لثقافة المجتمعات، حيث تعتبر المدينة كالكائن الحى، يتشكل عبر الزمن، و لكل عصر فكره و تأثيره على شكل المدينة و القيمة الحضارية التى يتركها للأجيال القادمة، لتصبح المدينة عبارة عن طبقات من أزمان مختلفة. و لابد التعامل مع كل منطقة فى المدينة بحسب ما يناسبها من وسائل حفاظ و تطوير، و إذا حدث خلل فى هذا التعامل تظهر المشكلة و تَعُمْ الفوضى. تتعدد أشكال فوضى العمارة فى بلدنا و تتداخل أسبابها، و ما نشهده الآن من فوضى معمارية يقدم صورة غير واضحة للمجتمع و وضوح وجود مشكلة حقيقية فى تحديد ثقافة معينة سائدة و غياب الرؤية المجتمعية لعمران المدينة.

ختلف أشكال الفوضى و مستوياتها فى كل مدينة عن الأخرى و لكن تبقى النتيجة واحدة و هى صورة غير حضارية للمدينة و الأهم هو عدم مراعاة إحتياجات المجتمع الذى يعيش فى المدينة. بداية من ظهور مناطق كاملة عشوائية نتيجة سوء التخطيط إلى فوضى أنماط و طرز المبانى فى الحى أو المنطقة العمرانية الواحدة، و تشمل المشكلة أيضا الفوضى على المستوى الحضارى من تنسيق الشوارع و الفراغات العامة، و التدخلات التى يضيفها المجتمع نتيجة تعامله مع المبانى و الفراغات العامة ليجعلها أكثر ملائمة لإحتياجاته.

 تتداخل أسباب فوضى العمارة و بالتالى تتعدد الأطراف المسؤولة عن هذه الفوضى، و من منطلق أن الأشياء تُعرَّف بأضادها، فلابد من معرفة النظام المفروض إتباعه أولاً الذى خرجت عنه و من ثَم نتفهم عندها من أين جاءت هذه الفوضى و محاولة إيجاد حلول لها.

 تتولى مؤسسات الدولة وضع الأنظمة الحاكمة لكل المجالات، و لعل من أهم أسباب فوضى العمارة هى تعدد المؤسسات المختصة فى مجال العمران، بين وزارات و هيئات و مجالس و إدارات، و تعدد إختصاصات و أهداف كل منها بدون تنظيم بينها معلن و واضح. حيث توجد عدد من المؤسسات و لكل منها اختصاصات مُحدَدَة بالقوانين و اللوائح التنفيذية و مُعّين لكل منها مسؤولين عن هذه المهام، و لكن فى الحقيقة توجد مشاكل عمرانية كثيرة ـ تعتبر من أولويات المهام فى اى مدينة بها إدارات مسؤولة عن تنظيم العمران ـ لا يظهر تقدم يُذكر فى حلها او فى محاولة حلها!

 و من الأسباب الرئيسية لفوضى العمارة هى عدم الإلتزام بالقوانين المنظمة للبناء و الإشتراطات المعمارية و إشتراطات التنسيق الحضارى التى تنظم الطابع العام لكل منطقة فى اى مدينة، و التسيب فى معاقبة من يخالف هذه القوانين و الإشتراطات إن وُجِدَتْ، و قد تكون المشكلة فى القانون ذاته، حيث تُستغل الثغرات التى ممكن التحايل بها على القانون أو قد تكون المشكلة الفساد الذى يؤدى الى التلاعب بالقوانين و عدم الإلتزام بها. و قد إزداد إختراق القانون و عدم المعاقبة علية فى السنوات الأخيرة لما حدث من غياب أمنى خلال فترات الثورة و ما بعدها و النتيجة ان فى مبانى مهمة تُسَجِل قيمة حضارية لزمن معين فى مناطق مميزة تم هدمها و بناء مبانى مكانها لا تراعى لا النسيج العمرانى و لا الطابع العام للمنطقة. و لأسباب إقتصادية يحاول المستفيدون من إنشاء المبانى الجديدة الإستفادة أكبر قدر ممكن، فتُنشأ مبانى شاهقة الإرتفاع فى مدة قصيرة جداً و تمثل هذه المبانى عبأ على البنية التحتية و خطر إنهيارها على البنايات المجاورة. و قد حدث بالفعل بعض الحوادث مثل إنهيار مبانى فى مناطق مكدسة بالسكان و تسببت فى إنهيار بنايات مجاورة و حتى الأن لم يُتَخَدْ إجراءات حاسمة لوقف هذه الحالة من الإنفلات و بناء مبانى مخالفة لمنع حدوث مثل تلك الكوارث!

لعل من الأسباب المهمة – الغير مباشرة – لمشكلة فوضى العمارة هى التعليم المعمارى و ما يدرسه الطلبة من مناهج جامدة و غير مواكبة لواقع العمران فى مصر و التحديات التى تواجه البيئة العمرانية و مشاكل المجتمع الحقيقية، فبالتالى يتخرج المعمارى غير مُؤَهَل للتعامل مع المشاكل الموجودة و غير قادر على إيجاد حلول منطقية مبنية على تفكير سليم و حلول مبتكرة لأنواع المشاكل المختلفة. و تأتى هذه المشكلة كجزأ من مشكلة أكبر و هى غياب الرؤية و التخطيط بين المجالات المختلفة، الإقتصادية و الإجتماعية و التعليمية و البيئية، حيث ان البيئة العمرانية هى نتاج تفاعل كل هذه المجالات على ضوء تخطيط مناسب يراعى إحتياجات المجتمع، و بالتالى عدم وجود رؤية مجتمعية لعمرانه. و إن وجد هذا التخطيط فهو لا يُفَعَّلْ و لا يظهر أثره، بدليل الفوضى التى نشهدها. حالة الفوضى السياسية التى عانت منها البلاد مؤخراً و ما سبقها و تلاها من حالات فساد فى جميع القطاعات و المجالات و المشاكل الاقتصادية أدت الى تفاقم مشكلة فوضى العمارة.

 نحن بحاجة الى تخطيط عام حقيقى بين المجالات المختلفة و تحديد رؤية واضحة و مترابطة و تحديد المنهجيات و الآليات المناسبة المعلنة لتحقيق هذه الرؤية. و يأتى التخطيط العمرانى و الحضرى من أهم الأولويات لاى دولة، و وضع رؤية لما سيصبح عليه عمراننا و التحديات الواجب تنفيذها و خطة لتطوير القائم من المبانى و الفراغات العامة و الشوارع و تنظيم التعامل مع المناطق المميزة. و هنا يقع العبئ و المسؤولية على المعماري و المُخَطِطْ العمرانى.

 لابد من تعديل مناهج التعليم فى كليات العمارة و التخطيط العمرانى بما يتناسب مع الرؤية العامة للدولة، لإعداد جيل من المعمارين و المخططين قادرين على التحليل و النقد و دراسة  الوضع الراهن و ما آلت إليه حالة العمران من فوضى و المشاكل العمرانية الجديدة التى ظهرت بعد حالة التسيب الأمنى – حيث انها أثرت بشكل كبير على النسيج العمرانى للمدن فى مصر – و تحليل أنماط الفراغات الجديدة و محاولة إعادة فهم المشكلة، و تجديد المفاهيم الجامدة لدى مؤسسات الدولة بشكل يتوائم مع العصر الذى نعيش فيه. جيل قادر على التواصل مع المجتمع و إعادة فهم التركيب السكانى لكل مدينة و دراسة المشاكل و التحديات التى تواجهه و محاولة إيجاد حلول مستدامة و وضع رؤية لمستقبل العمارة و العمران فى مصر بمشاركة المجتمع الحقيقية.

 و لتنفيذ اى خطة تنمية أو تطوير لابد من إشراك المجتمع و توعيته بحقه فى المدينة و واجباته، و من أهم الحقوق هو حقه فى الوصول الى المعلومات الخاصة بخطط التنمية العمرانية و الإشتراك فى إتخاذ القرارات الخاصة بعمرانه و العلم بسياسات الدولة العمرانية و أولويات البناء و التعمير و تخصيص الأراضى و الميزانيات المخصصة للمشاريع العمرانية. حيث من المشاكل المطروحة المتعلقة بالسياسات مثلاً انه يتم الإعلان عن البدء فى مشاريع لتوفير مساكن لحل مشكلة العشوائيات، و نفاجئ بعدم مراعاه ملائمة هذه المساكن لإحتياجات المواطنين، لا من حيث الخدمات و لا توفير وسائل المواصلات و قربها من الطرق التى تُمكن هذه المجتمعات بمواصلة حياتهم و الوصول الى أماكن عملهم و المدراس و الخدمات الأخرى. و فى نفس الوقت نفاجئ بتخصيص و بيع أراضى فى أماكن مهمة لشركات خاصة لإقامة التجمعات العمرانية ذات المستوى العالى لفئة محددة من المجتمع!

  تتسبب هذه السياسات الغير واضحة فى إنعدام الثقة بين الدولة و فئات المجتمع المهمشة و الشعور بعدم الإنتماء للمكان. فكرة العدالة الاجتماعية و ضرورة تعديل التشريعات و القوانين أصبحت ضرورية، و وضوح الإرادة السياسية و إعلان القرارات الخاصة بالتنمية العمرانية و إشراك المجتمع فى وضع التشريعات الجديدة وإتخاذ القرارات من الأمور الملحة لحل هذه المشكلة، و عودة إحساس المجتمع بالإنتماء للمكان الذى يعيش فيه و لابد من توعيته بالفرق بين المجال العام و الخاص و بالتالى إلزام كل فرد من أفراد المجتمع بالمسؤولية المشتركة فى المحافظة على البيئة العمرانية و إتباع القوانين.

فى السنوات الأخيرة زاد عدد المبادرات من قبل أفراد متخصصين فى المجال المعمارى و المجتمع المدنى، فى ظل غياب الدولة أو ضعف مشاركتها فى هذه المبادرات. و غالبا ما تكون هذه المبادرات عبارة عن مجموعة من الورش التى تخلق حالة حوار دائم حول المشاكل العمرانية التى نواجهها و عمل الدراسات الازمة لفهمها و محاولة طرح رؤى لكيفية إيجاد حلول، و لكن غياب عنصر الدولة يُسبب عرقلة هذه المحاولات. قد تكون هذه المبادرات هى بادرة الأمل فى محاولة حل المشكلة أو حدوث اى تغيير لوضع أحسن!

 تتجه الآن دول العالم كله الى تطوير المراكز الحضرية و خلق تحديات جديدة لتطوير العمران للأحسن لصالح المجتمعات، و الوضع فى بلدنا مازلنا متعثرين فى أبسط المشاكل العمرانية! …. نحن فى حاجة الى خلق توازن بين كل من القوى الإقتصادية و مجهودات المجتمع المدنى و آليات الحكومة للتطوير، لنصل الى حل.


_اروى بهجت _فوضى العمارة و عمارة الفوضى

اروى بهجت

تخرجت اروى كمعمارية من كلية الفنون الجميلة جامعة الاسكندرية عام 2012 . مهتمة بمجال العمران و التراث ، و كيفية سد الفجوة بين وعى المجتمع بالمجال العام و البيئة العمرانية و وعى المختصين بالعمران فى مصر. شارَكَت بعدة ورش ذات صله بمواضيع العمران، و منها تجربة كتابة مقالة فى نشرة غير دورية تُعنَى بالأسكندرية: المدينة و العمران و الناس، كانت إحدى منتجات ورشة تابعة لمؤسسة “جدران للفنون و التنمية” فى مشروع تحت مسمى الإعلام المجتمعى فى الاسكندرية.

أضف تعليق