عرض كتاب .. التحضر العشوائي

بقلم :  طارق والى – نرمين عصام ..

الكتاب : التحضر العشوائيPages from الهجرة والتوطينsmall-8

الكاتب : د. جليلة القاضي

ترجمة : منحة البطراوى

دار النشر : دار العين

تاريخ الاصدار : 2009

إننا لا نعيش فقط في عالم أصبح نصف سكانه من قاطني المدن ..

بل إننا نشهد ايضاً ظاهرة تحضر الفقر ..

تقديــــــــــــــم ..

يطرح كتاب التحضر العشوائي للدكتورة جليلة القاضي مشكلة إسكان الطبقات الفقيرة غير القادرة على الحصول على مسكن لائق بشروط السوق .

حيث وصل عدد الفقراء في المدن إلى 20 % من سكان العالم ويقع اللوم في هذه المشكلة على نظام السوق العالمي الجديد ـ حسب رأي د. جليلة ـ وكذلك بسبب الرأسمالية المتوحشة التي أجبرت الدول النامية على التخلي عن دعم السلع الأساسية للطبقات الدنيا والوسطى وأهمها السكن ، وذلك من أجل جدولة ديونها عن طريق مشاريع ذات أرباح عالية وبالتالي فهي تخدم فئات معينة من تلك المجتمعات دون باقي الطبقات .

وجدير بالذكر أن هذا الكتاب والصادرة ترجمته باللغة العربية سنة 2009 في القاهرة ، هو رسالة الدكتوراة في تخطيط المدن للمؤلفة نفسها من جامعة باريس سنة 1984 ،

وقد أضافت عليها مقدمة لاحقاً عند ترجمة الرسالة وأعدادها لتصدر كتاباً مترجماً للقارئ العربي بهدف تحديث المادة المعرفية والعلمية عن ظاهرة « التحضر العشوائي « منذ وقت أعداد الرسالة وحتى تاريخ صدور النسخة المترجمة مؤخراً ؛ وتأتي تسمية هذه الظاهرة والتي أتخذتها المؤلفة عنواناً لكتابها بعد التفاضل بين مصطلحين للظاهرة محل البحث والدراسة وهما « التخطيط ـ العشوائي « الذي ترى إنه يحمل في طياته كثير من التناقض ، لذا فهي تتبنى مصطلح « التحضر العشوائي « ليكون التحضر في مقابل التخطيط .. وتأخذ من المصطلح عنواناً للظاهرة والكتاب .

تستعرض د. جليلة القاضي في مقدمة الكتاب ظاهرة التحضر العشوائي الحالية ، وتتساءل عن التناقض بين إستنفار الحكومات والمنظمات العالمية ، ومنظمات المجتمع المدني في مدن العالم الثالث وبين تفاقم أزمة السكن ؛ وتشير هنا إلى أن مفهوم التنمية المستدامة بمعنى العمل على التنمية والحفاظ على البيئة قد فُرغ من مضمونه في الواقع الفعلي ، لصالح آليات إنتاج الفقر وأستبعاد شرائح عريضة من المجتمع من عمليات التنمية ، حيث تلعب المضاربات العقارية والتسارع نحو الربح السريع دوراً هاماً في إثراء القلة على حساب الأغلبية . وتقدم د. جليلة القاضي في هذه المقدمة مقابلة بين نسقين حضريين هما المدن العشوائية والمدن المنشأة ، فالمدن العشوائية كما تراها هي إمتداد للتجمعات الريفية التي نمت بالتدريج وتحولت إلى مدن وحضر ، أما النسق الثاني فهي المدن المنشأة بقرار سيادي طبقاً لخطة مرسومة سلفاً .. وقد تجمع العديد من المدن المنشأة بين منهجي التخطيط والعشوائية اللذين تتابعا وتداخلا زمانياً ومكانياً ، ومنها مدينة القاهرة والتي تتناولها الكاتبة بالدراسة والتحليل لظاهرة العشوائيات بها ، وتطور تلك الظاهرة وتغيرها منذ عصر أسرة محمد علي سنة 1805 وأستمرارها وتحورها حتى العصر الراهن مروراً بفترات التحولات السياسية والأقتصادية والإجتماعية على مدى القرنين السابقين ، حيث تفاقمت تلك الظاهرة في العقد الأخير من القرن العشرين ، وتُرجع د. جليلة القاضي هذا النمو الحالي الهائل والحادث للعشوائيات إلى :

إنسحاب الدولة بشكل تام حينئذ من قطاع إنتاج المساكن المدعمة .

إعادة هيكلة القطاع الخاص الرأسمالي الذي تحول من الإنتاج السلعي الصغير في الإسكان ( عمارات وفيلات ) إلى إنتاج رأسمالي موسع ( أحياء متكاملة ) .

أنتقال الإنتاج السلعي من مراكز المدن إلى أطرافها .

وترصد الكاتبة هنا آثار تلك التحولات المعاصرة على الإسكان والسوق العقاري والمتزامنة مع سياسات الأنفتاح الأقتصادي ، تلك السياسات التي أدت إلى الأرتفاع المفاجئ لأسعار أراضي البناء داخل الكتلة العمرانية وظهور أنماط وأنواع جديدة من المتدخلين في هذا السوق بأختلاف توجهاتهم ، ومعها ظهرت على أطراف المدينة شركات بيع وتقسيم الأراضي ، بينما كان في مركز المدينة كانت شركات الإنماء العقاري الخاصة ؛ ولم يهتم هؤلاء المتدخلون بالطبقات الوسطى ولا الفقيرة ، وأنحصر هدفهم في خدمة طبقة معينة من الأغنياء فقط .. وتقصد الكاتبة هنا بالمركز ليس فقط المركز التجاري للمدينة ولكن أيضاً كل الأحياء العمرانية داخل الكتلة العمرانية ، بينما تقصد بالأطراف تلك الأراضي الزراعية خارج الكتلة العمرانية المبنية وخارج الكردون .

وتركز د. جليلة دراستها على إستقراء التراجيديا العمرانية التي تعيشها القاهرة وتلخصها في : غياب الرؤية والمنهج العلمي وتحديد الأولويات ، ثالوث هيكلي أتسمت به كل السياسات في جميع المجالات وعلى جميع الأصعدة ، فكانت النتيجة هي الفشل في القضاء على ثالوث آخر : الفقر والجهل والمرض ، مما أفقد محاولات أي صحوة وأستراتيجيتها المعلنة كل مصداقية . إن معطيات الوضع الحالي للعمران في مصر حسب رأي د. جليلة لا يبشر بأي حل جذري لقضية العشوائيات ، وخاصة في شقها الدرامي الحتمي ، وهو تآكل الرقعة الزراعية في الوادي والدلتا .. وبالرغم من جهود الدولة منذ بداية الخمسينات من أجل أستصلاح المزيد من الأراضي الصحراوية وزيادة الرقعة المنزرعة ، إلا أن تلك الجهود شابها القصور لأنه في مقابل أستصلاح النطاق المهجور ، لم تتم حماية أرض النطاق المعمور من التآكل تحت ضغط الزيادة السكانية والزحف العمراني .

ومن جهة أخرى ، فمن المفارقات التي تثير الدهشة والأحباط ، فبعد مرور 30 سنة على إطلاق سياسة إنشاء تجمعات عمرانية جديدة في الصحراء أو غزو النطاق المهجور من أجل أعادة توزيع السكان والأنشطة على مجمل مساحة مصر والحفاظ على أو الحد من النمو العمراني على الأراضي الزراعية ، نجد أن تلك السياسة لعمران 16 مدينة جديدة وتابعة قدرت مساحتها الكلية بـ 2400 كم2 ، أي حوالي 6% من مساحة المعمور حينئذ ( 36280 كم2 ) ، وتقريباً ما يساوي مساحة الحضر الكلية ( 2497 كم2 ) وكان المستهدف أن تستوعب تلك التجمعات 6145000 ساكن سنة 2010 ، هذا بالإضافة إلى تلك السياسات شملت عمران عشرة تجمعات حول مدينة القاهرة الهدف منها تقليل الكثافات ونقل الأنشطة الملوثة والمثيرة للضجيج ، وتطبيق آليات تحضر تقسيم الأراضي وتسويقها والبناء في المناطق العشوائية في هذه التجمعات ، والتي كانت موجه أساساً إلى محدودي الدخل .. ولكن حسب ما تؤكده د. جليلة في مقدمة كتابها فشلت المدن الجديدة في جذب السكان حيث كان مجمل السكان في المدن الجديدة في القطر المصري يقدر بـ 1200000 ساكن أي 1/6 المستهدف المخطط له .. أما التجمعات العشرة فلم يتحقق منها سوى تجمع واحد بالقطامية ، أما التسعة المتبقية منها أعيد تخطيطها كأحياء متميزة للطبقات الغنية ، وتوجت الدولة هذه التحولات بضم تجمعين ليصبحا جزءاً من مدينة جديدة ( القاهرة الجديدة ) .. ! ؛ ومازالت تلك السياسات مستمرة ضمن إستراتيجية الدولة .. وهنا تطرح الكاتبة العديد من التساؤلات : من المستفيد من إستراتيجية التعمير ؟ .. ومن أين أتى هؤلاء المستفيدون الجدد بالملايين التي يقتنون بها هذه الأراضي ؟ .. والملاحظ أن هؤلاء ينتمون لنفس الطبقة النخبوية ، طبقة النصف في المائة التي حاولت ثورة يولية 1952 القضاء عليها ـ وكأن التاريخ يعيد نفسه …

وفي ظل تلك الأوضاع الحادثة والمتكررة أستمر أهدار الأراضي الزراعية ونمو العشوائيات ، فلا عجب أن يصل عدد سكان العشوائيات سنة 2006 إلى حوالي 17 مليون ساكن ؛ ولا عجب أن يظل أيضاً نسبة السكان التي توطنت الصحراء بالنسبة للعدد الكلي في القطر المصري سنة 1996 1.7 % وهي نفس النسبة لسنة 1986 ، إزدادت بعض الشئ لتصبح 2 % سنة 2006 .. وهنا تتعرض الكاتبة للرؤى المستقبلية المطروحة من الدولة ولآثار مشروع القاهرة 2050 المقترح ، وتتساءل حول مصير التجمعات العشوائية .. ؟؟ ؛ حيث تشير د. جليلة أن كل آليات تطوير العشوائيات المزعومة كانت آليات تطوير عمراني بهدف تحقيق حلول أمنية لفرض سيطرة النظام ، بدون النظر إلى التطوير المجتمعي أو الأهتمام بالفرد ، كما تؤكد الكاتبة في هذا المنوال على إنه لا بديل عن إستيطان الصحراء بالحث والجبر ، وأن عملية الأرتقاء بالمناطق العشوائية بالرغم من أهميتها الملحة إلا أنها تمثل هدراً للموارد بدون الوصول إلى الهدف المنشود أي الحد من التطرف وألتهام الأراضي الزراعية الخصبة .

منهجية الدراســـــــة ..

يؤكد الكتاب في مجمله على أن مشكلة التحضر العشوائي لم تحظ بالأهتمام الذي تستحقه إلا في وقت متأخر للغاية ، وأصبحت منذ بداية الثمانينات موضع أهتمام خاص من جانب الأجهزة الدولية ومكاتب الدراسات ولاسيما الأمريكية ، وكانت عناية تلك الأجهزة موجهة بشكل عام نحو دراسة حالة سكان المناطق العشوائية ومستوى حياتهم الإجتماعية ، ومدى شعورهم بالرضا ، في حين الجزء الآخر كان مهتماً بدراسة تطور المشكلة من خلال دراسة واقعها الخاص ، إلا أنه لم يكن قادراًعلى التوصل إلى تلك الأسباب التي أدت إلى نشأتها … وقد ترتب على ذلك أن هذه الدراسات لم تؤد إلا إلى معرفة ناقصة ، أو إلى رفض لإدراك الأوضاع الحقيقية .. وتبعاً لذلك لم يتم إدراك المنطق الخاص بهذا الشكل من الإنتاج الإسكاني في حقيقته الأساسية .

وفي تصور د.جليلة القاضي أن السبب في عدم إدراك هذا المنطق يعود إلى أشكال من سوء التقدير ذات طبيعة منهجية :ويتمثل سوء التقدير الأول في غياب نهج شامل في رؤية المدينة مرجعيته أننا نواجه صعوبة لدى النظر في خريطة للقاهرة تظهر عليها بوضوح المناطق العشوائية في إدراك العوامل التي حددت مواقع هذه المناطق بالنسبة لعلاقتها ببنية المدينة ، رغم أن هذه العوامل ترتبط أرتباطاً وثيقاً بالخصائص الجغرافية للموقع وأمكانياته ، وبالتقسيم الإجتماعي للمكان وخصائصه الفنية ـ الأقتصادية ، وأخيراً بطبيعة الملكية العقارية . وعلى هذا النحو ، أصبح من الضروري إيلاء أولوية خاصة لتحليل كل من تطور المدينة ولبنيتها المتجددة والتمايز فيها ، وتأثير تزايد عدد السكان وتوزيعهم طبقاً لنظام توزيع الدخول والقدرة الأستهلاكية للمجموعات الإجتماعية المختلفة ، ومن شأن هذه التحليلات إدراك المنطق الذي حدد المناطق العشوائية وقياس مدى إندماجها في المساحة الحضرية في إطارها الكلي .

أما سوء التقدير الثاني ، فيتمثل في قصور النظرة الكلية للأسلوب الخاص بنظام الإنتاج ، فترى الكاتبة كان من الضروري دراسة تطور النظم الفرعية للعروض المتاحة من الأراضي والمساكن ومعالجة نظام الإطار الإسكاني من خلال تحليل علاقات إنتاج وتقسيم العمل داخل قطاع الإسكان ، وكذلك ترى إنه من الصعوبة بمكان فصل دراسة أساليب الأنتفاع بالأرض عن دراسة أشكال نمو الملكية العقارية . أما آخر أشكال سوء التقدير فيتمثل على وجه الخصوص في منهج تحليل الظروف التاريخية ، فينبغي أن يتم الربط بين نشأة جمعيات تقسيم الأراضي في المناطق العشوائية من ناحية وظهور شركات عقارية كبرى هي فروع لمجموعات مالية من ناحية أخرى .. وكذلك بين ظهور القدرة على السداد التي توفرت لدى نسبة كبيرة من السكان نتيجة إعادة توزيع العائد البترولي في المنطقة الذي حققته ظاهرة العمالة المهاجرة ؛ وأيضاً ظاهرة التضخم الذي حدث في أسعار أراضي البناء والعقارات ، وهي ظاهرة مرتبطة بشكل وثيق بالتغيرات الجذرية التي حدثت في النظام الإجتماعي والأقتصادي للدولة والمجتمع ، ويفسر عدم وضوح هذا العامل الرئيسي في علاقته بالفئات الوسيطة الأنزلاق الذي حدث نحو أقصى شكل من أشكال الإسكان العشوائي .

وتهدف د. جليلة القاضي من خلال كتابها “ التحضر العشوائي “ إلى محاولة أستكمال بعض جوانب هذا القصور ، ويقوم الكتاب على ثلاثة أجزاء متكاملة متمثلة في أبوابه ، وهي :

الباب الأول ـ تفاعل المناطق العشوائية مع الحيز الحضري للمدينة :ويتركز على تحليل نمو المدينة ( القاهرة ) والتقسيم الإجتماعي والخصائص الفنية ـ الأقتصادية للحيز العمراني وكذلك نشأة المناطق العشوائية على هذا التقسيم وخصائص ديناميكية مناطق التحضر العشوائي .

الباب الثاني ـ الإدارة العقارية والتشييد :إن عملية تحويل الأراضي الزراعية الواقعة في الإطار الحضري للقاهرة إلى مناطق حضرية يشكل إستجابة لحاجات أعداد كبيرة من السكان ، غير أنه يترتب على هذا الشكل الحضري تناقضات جديدة ، وتبعاً لذلك تحتل مشكلة الأرض مركزاً رئيسياً في ظاهرة الإسكان العشوائي ، ولهذا تولي الكاتبة في تحليلها نظام إنتاج المساحات التي تم تعميرها أهمية خاصة لأسلوب إدارة الأراضي والعوامل الرئيسية المحددة لها ، ومنطق هذه العوامل وتطبيقاتها العملية في كل مراحل عملية التحول الحضري .. وفي نهاية التحليل تقوم بدراسة الآليات المتبعة وأساليب تدخل الدولة وسياسات الإسكان التي أتبعتها خلال العقدين الأخيرين .

الباب الثالث ـ دراسة حالة .. عرب الجسر :تمثل دراسة الحالة وسيلة يمكن الأعتماد عليها في تحديد الأداة التي تمكننا من التمييز بين أشكال مختلفة وبلوغ أقصى درجة من الدقة في تحليل عملية نشأة منطقة معينة ، ونموها والتحول الذي يطرأ عليها ، وكذلك إفرازها لأشكال أخرى والتمايز الذي يوجد داخل نطاقها ، ومن ناحية أخرى فإن دراسة حالة بعينها تمكننا من التوصل إلى تحديد دقيق لأسئلة تتعلق بـ :

متى ، وفي أي وقت ، ولماذا يحدث إنتقال شكل من الإنتاج إلى شكل آخر ؟

وما هي حدود أستقلال هذا التحضر العشوائي ، ودرجة هذا الأستقلال ؟

وأخيراً ما هو مستقبله ؟ …

أسئلة تمثل الإجابة عليها فهم تلك التراجيديا العمرانية التي تعيشها القاهرة ومناطق العشوائيات فيها ، ووضع الحلول للخروج بالمدينة والمجتمع من أزمته الدرامية الراهنة نحو وضع عمراني وإجتماعي أفضل ..

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s