بقلم طارق والي …
البدايـــــــة ..
إن قدرة الانسان على البناء الإدراكي في خياله تتخطى الوجود المادي لمكان بذاته ، وتتعدى معه إستيعاب الانسان لمحدودية المكان في لحظة معينة ، بل تتغير عملية ميلاد التشكيل الفراغي لعمارة المكان تبعاً ومتغيرات إدراكات الانسان وتفاعلاته وإستيعاباته المتفاوتة .. ويبقى الثابت ليس هذا التواجد الملموس بالإدراكات الحسية ، ولكنها تلك الانساق والقوانين المنظمة لديناميكية المتغير بذاتية المكان أو بفعل الانسان .. تلك المنظومات هي الثوابت المشتركة التي تضمن تواتر ميلاد عمارة المكان وتجددها مع مرور الزمان .
تتغير الرؤية بتتابع الزمن وتعاقب الأحداث بل وتغير الحالة النفسية للانسان نفسه ، أو بإختلاف الشخوص المتفاعلة أو المستقبلة لعمارة المكان والرسالة التي تحملها ؛ قد تبدو أستنباطات منفردة وذاتية ولكنها بجوهرها تحمل الجمعية المشتركة لوجود الفرد ، كما إنها تتيح الإمكانية المستمرة لإعادة أبداع وجود مادي مغاير ومتجدد في كل لحظة ومع كل تجربة إبداعية جديدة . وهذا ما يترجمه بينالي فينسيا للعمارة في دوراته المتتالية من تجربة مكانية للحوار بين ثقافات تحمل تجارب مختلفة متقاربة أو متناقضة في مظهرها ولكنها دوماً متفاعلة حول أرضية مشتركة تمثل حالة للثقافة المعمارية في بعدها الانساني .. إن البينالي في هذا الإطار وما يضمة من رسائل حضارية وثقافية يقدم صورة جديدة وتجربة مكانية فريدة مع كل دورة .
تستمد المتغيرات حيويتها من الثوابت ، فالمتغير هو المنتج المادي الملموس بأشكاله المختلفة والثابت هو المنظومة المقننة لإخراج المنتج ؛ وما بين الثابت والمتغير ينشط إبداع الانسان حسب قدرته الإبداعية ، وهي تستحدث من تلقاء نفسها إذا تحققت لها الموائمة الفكرية والثقافة المناسبة ، والتي تتولد عنها بكيفية مجردة القيمة تحقق إمكانية التحاور والتبادل لبناء قواعد مشتركة فكرياً ومهنياً وانسانياً فى مساحة حدودية ولاحدودية ، محددة ولكن ديناميكية .. وهنا فينيسيا المكان نقطة ثابتة معلومة على الأرض ولكن حالة تأثيرها المشع متغير بشكل دوري ، هى حقيقة موجودة ولكنها نسبية التأثير تعتمد على حدث البينالي وهو المتغير ، كما أنها تعتمد على المشارك والمتلقي وهما متغيران ، تتغير الأحداث والشخوص والقضايا وتبقى لكل ثقافة وتد ثابت تقف عليه لبداية حوار جديد متجدد ، ومنها الحالة المصرية . إنها ثقافة جمعية تتوارثها الأجيال بحكم الممارسة ويجردها المبدعون فى حالة نمو وتطور وديمومة حيوية تضمن لها دائما الإستمرارية والقدرة الذاتية على التخاطب مع الأخر .
المنظومات المقننة للمتغيرات ..
إن القيمة الباطنية للعملية الابداعية هي المعيار الجذري لوجود الحياة والروح في الانسان والمجتمع ، وايضا في عمارته وفي ثقافته و في الحضارة عامة ، وعملية البحث والكشف عن هذا الجوهر هي في حقيقتها أكتشاف متجدد عن الشخصية المحلية للمجتمع في صورها المختلفة ، ولتحديد هذه القيمة المنظومة في كيانات إبداعية مادية وفي مقدمتها العمارة لابد أن ندرك أن لكل بيئة وثقافة مكانية شخصية تتشكل منها تلك المنظومات ، ومن هذه البيئات الحالة المصرية التي تشكلت حضارتها في مراحلها المتنوعة والمتتابعة حول هذه القيمة وقامت على تلك المنظومة القيمية .
إن تلك المنظومات فى المطلق هى خريطة خفية لقواعد المضمون ، يكتشفها الانسان المتسق مع فطرتة ، فهى تكوينات إيقاعية متتابعة تنتج تركيبات حواسية لا نهائية ، مثل النوتة الموسيقية وتناغم المقامات فتتولد سيمفونيات أو معزوفات شرقية متنوعة ومختلفة ؛ أو مثل توظيفات الكلمة فى أبيات الشعر ، حيث تكون الكلمة هى الجزء والكل فى ذات الوقت مثل النغمة والحرف .. فأساس المنظومات كمفردات هي لغة للموسيقى والشعر والمكان ، جميعها يولد على أرضية مشتركة ، والديناميكية هى السمة السائدة لتتواصل تلك الابداعات مع المتلقى على الرغم من تغير المحتوى ، وتبقى مهنية المعماري الكشف عن تلك القواعد والمنظومات والأعتماد عليها فى صياغة إبداعاته المتجددة ، لغة حوار للتواصل مع الآخر ، إيحاءات خافتة لمضمون المكان الذي يحمل ما هو كان وما هو كائن الآن ، وكل ماسوف يكون مستقبلاً فى ذلك المحتوى المنظومى ، فالزمان يمضى تاركاً خلفه وقائع وأحداث ، وإن كانت غير مرئية ولكنها منحوته فى الخريطة العقلية لكل انسان متلقي .
إن العملية الإبداعية في الحالة المصرية خاصة وفي الحالة الانسانية المطلقة عامة ، والتى تنتج عمارة مكان بعينه ، هي ولادة مرتبطة بحالة تناغم مع كونية هذا المكان . مرحلة ولادة هى لازمنية ، لا بداية لها وليس لنهايتها وجود أو حدود .. تتكون فى إطار متتابع لمراحل محددة تبدأ بحلم ورؤية الانسان ، ثم منظومة مقننة للعملية الإبداعية ، وتنتهي بتصميم . أما الحلم والرؤية فهى تجربة إفتراضية تحمل طموحات وتوقعات شتى ناتجة عن ردود أفعال مسبقة ، فكرة فى فضاء تتبلور وتتشكل كلما زاد التأمل وكثرت لحظات أحلام اليقظة . فننتقل ما بين مرحلة الحلم وهو لا زمنى إلى مرحلة الرؤية الأكثر وضوحا لمكان بعينه مرتبط بلحظة زمنية ما . وقبل أن تترجم تلك إلى حالة مادية ملموسة ، قد تتبلور الفكرة الإبداعية من خلال لغة المنظومات المقننة للإبداع ، فهى حلقة وصل المكان بالزمان ، فتقنن الإبداعات والرؤى الفكرية الى منظومة نسقية قانونية ، وتملئ الفراغ ما بين الروحاني والملموس . فتصبح عملية التصميم من ذلك المنطلق تطور لإسقاطات الرؤية المسبقة إلى قوانين منظومة تتخذ بعد زمنى معلوم ، وعندها قد تتغير التصميمات حسب الحالة النفسية والإدراكية للمعماري المبدع أو تبعاً للظروف المحيطة بالحدث أو زمانه .
ميــــــلاد المكان ..
الولادة المكانية أو الإنفصال عن الفراغ المطلق يبدأ بنقطة هى بداية لكل ما هو مفترض ، ففى البدء كانت النقطة ، تكونت من اللاشئ وكل شئ ، فهى الجزئية المجردة التى تكون الكل المفعم بالحياة . فوجودها هو ما يطلق شرارة بداية صور الطاقة الأولية لوجود المكان . تلك النقطة قد تكون ميتافيزيقية لاملموسة أو معلومة على أرض ، فالموقع التجريدى للمكان هو مبنى على نقطة . وتتابع الخطوات من مرحلة إكتشاف البعد المكانى ثم بعد ذلك مرحلة معرفة النقطة ، ثم البحث عن المقومات الغير مرئية ، ثم إمتداد منطقى للنقطة إلى خط ، من الثبات للحركة لتولد تركيبات مستنتجة من الفراغ ، وأخيراً إكتمال حلقة المنظومة أو القانون .. فتكون النوتة الموسيقية لمعزوفة المعماري حسب المقامات المنظمة لها ولنغماتها .. وما ينتج عن الرؤية وقانون المنظومة هو التصميم الذى يتأثر بالعنصر التقني والمادي ففى تلك المرحلة تبدأ محاولات الوصول الى إمكانات المادة الفيزيائية وفكرة مدى موائمتها على الأرض . إنها في الحالة المصرية خاصة والانسانية عامة ثقافة جمعية تتوارثها الأجيال بحكم الممارسة أحياناً ، ويجددها المبدعون في حالة نمو وتطور وديمومة حيوية تحقق لها الاستمرارية والقدرة الذاتية على التخاطب مع الآخرين .. وتبقى مهنية المعماري الكشف عن تلك القواعد والمنظومات والأعتماد عليها في صياغته وإبداعاته المتجددة عندئذ يمكنه صياغة اللغة المشتركة والقانون الذاتي لمواجهة عمليات التصميم والبناء المتغيرة .
هكذا فالمكان يحوى المنظومة والإنسان هو القارئ ، قد تكون الرسالة بلا مضمون وتلك السمة السائدة الآن ، وأحيانا أخرى القارئ ليس بملم ، فى كل الحالات التفاعلات قائمة مع نسبية التأثير ، وفى بعض الحالات قد يولد التأثير مقطوعات حسية صامتة تتناغم مع إيقاعات إنسان بعينه لتشكل لحظة الأدراك الوجودى ، حيث يصبح الإنسان من صميم المكان ويبقى المكان جزء من ذاكرته حتى بعد إنقضاء التجربة ومغادرة المكان ، وهنا يأخذ المكان بعد مغاير عن واقعه لتتشكل جزيئاته فى أبعاد عقلية وصور حواسية شديدة الخصوصية عند الإنسان .
وقد تكون التجربة المكانية منقولة من حكايات السابقين المقرؤة ـ المسجلة ، أو تجارب المعاصرين عن مكان ما ، تلك تجسيمات مباشرة لتخيلات مكانية متبادلة ؛ محاكاة إفتراضية لعملية تفاعل الحواس ، فتنشغل الحواس فى نسج خيوط ذاكرة تشكل منظومة مساحية لتتحول مصفوفات الكلمات إلى جدران ولدت من إنطباعات الحواس . وقد يوضح ذلك مدى عبقرية وإتساع المفاهيم المختلفة للكلمة ، حتى إذا توحدت كلمات وصف المكان فإن إسقاط المعنى على العقل يختلف كل الإختلاف من شخص لآخر فالكلمات قد تحتمل العديد من المعانى حسب الشخص المستقبل ؛ والمكان في حد ذاته مثل الكلمات يتسم بالمرونة أيضا فى إحتواء المتغيرات ، تلك أمور حتمية ولكن قدرة الانسان للتوافق مع متغيرات المكان تكون فى أكثرية الحالات جدلية ونسبية . فالمتغيرات قد لا تعنى دائما مدخلات مادية للمكان ولكن عامل الوقت قد يؤدى إلى تدرج الظاهرة الحسية ، أما فى حالة تجدد المكان أو إضفاء بعض المدخلات الجديدة عليه ، فدائما يوجد حوار بين الثوابت والمتغيرات المكانية .. فعند إعادة رؤية المكان قد تواجهنا جدلية التجربة الجديدة مع السابقة ، أيهما سيستحوذ على الصورة المرجعية الذاكرتية فى المستقبل أيهما سيحدث التأثير الأعمق لظلاله المكانية على الذاكرة الانسانية للمتلقي ؛ وقد يظن البعض أنها تؤدى بإختلال التوازن الحسى وفقدان الإنسجام وينتج عنه تشتت ، فالعملية تعتمد بالأخص على مهنية المصمم وبراعته فى الحفاظ على توائم المدخلات مع ثوابت المكان من منظوماته المقننة لوجوده ، وعلى الجانب الأخر ديناميكية التقبل العقلى للشخص وإستعدادية جهازه الحواسى لبناء الصورة الذهنية الخاصة به لتبقى الخيط الرفيع للتواصل على الأرضية المشتركة .
هكذا فإن التجربة المكانية تعتمد على التقبل العقلى ، وما يؤثر علينا كبشر فى منهج التقبل هو مدى إتساع أعماق العقل فى الرؤية والقدرة على بناء أبعاد تجربة مكانية جديدة ، تقوم على إتصال الحواس بكينونة المكان ومتغيراته وثوابته . فيحمل الإنسان ترسبات إنطباعات مكانية منحوته فى مساحات عقلية مرتبة يستطيع البناء عليها أو إستخدامها كمرجع فى تجارب لاحقه ، أحيانا قد تزيد وعيه فى محيطه المؤقت أو قد يعلو بسقف التوقعات لينتج حالة تناغمية أو إنتقادية للمكان أو حتى حالة من الرفض ..
. الأرضية المشتركة للثقافة المعمارية . .
مع الرحلة المتكررة إلى مكان بذاته مثل بينالي فينسيا ودوراته المتتابعة بمحاورها وقضاياها المختلفة ، تتشارك مجموعة من الثقافات على مبادئ فلسفية متعارفة لبدء حوار مفتوح ، هو ليس حوار مباشر كلامى ولكنه أعمق من مفردات الكلمات فهو حالة تأثيرية ثرية بالتفاعلات المباشرة . وتأتي الحالة المصرية المشاركة والفاعلة والمتفاعلة في هذا الحوار ، فى خضم تلك الرحلة المليئة بالتفاعلات الحسية ، تأخذك قدمك إلى ما بعد الجسر ما وراء الفاصل المائى إلى جناح مصر ، المكان الذي يحمل بوجوده مسئولية أن يلقي بكلماته مرسلاً ومستقبلاً ، يعبر الزائر والمشارك والمحاور إلى الحالة المصرية وجناحها حيث يتملكه الجزء المسيطر فى العقل الباطن للذاكرة ، فمن المفترض أن يشعر بوجودها بدون أى صخب ، ولكنه الحوار …