الكاتب : طـــــــــــارق والي …
تاريخ النشر : يوليو 1996 …
يعرض الكتاب في فصول ثلاث تلك الومضة الفكرية في تاريخنا الوسيط والذي حمل ريادتها ابن خلدون مرسياً قواعد علمه الجديد ونظريته المعرفية المستحدثة حول العمران وإشكالية تطوره .. والكاتب هنا يوازن بين النظرية العمرانية كما فجرها الرواد في القرن الرابع عشر الميلادي ، وبين إشكالية المعاصرة والحداثة للعمران كما يعيشها الآن .. ويذهب إبتداءاً إلى أن النظريات التقليدية في قضايا العمران والتاريخ خاصة تصب جل أهتمامها حول محور الدولة والسلطة السياسية وفعاليات وأحداث الحقبة السياسية ولا سيما العسكرية منها وتحولاتها المؤسسية ، ولكن نادراً ما تتطرق المناهج التقليدية إلى النواحي الفكرية والجوانب المجتمعية ، وبالتالي تجمدت تلك الرؤى عند جانب منفرد من الإشكالية العمرانية ، ولم تكن لها نظرة شبه شاملة ترصد سائر العوامل المحركة والصانعة للعمران ومجتمعه وأحداثه .. حتى ظهر ذلك العبقري ” عبد الرحمن بن خلدون “..
” ان نظريات ابن خلدون وأفكاره وآراءه كانت بلا شك سابقة لعصره وأوانه “
علم العمران الخلدوني ..
إن الفكر هو أداة الإنسان للأهتداء لتحصيل معاشه والتعاون عليه مع أبناء جنسه ، ومع الأجتماع المهئ لذلك التعاون وعن هذا الفكر تنشأ العلوم والفنون والصنائع . ويحدد ابن خلدون ذلك : ” .. ثم لأجل هذا الفكر تنشأ العلوم وما قدمناه من الصنائع ، وما جبل عليه الإسان من الإدراكات فيرجع إلى من سبقه بعلم أو زاد عليه بمعرفه أو إدراك ، أو أخذ ممن تقدمه يبلغونه لمن تلقاه ، فيلقن ذلك عنهم ويحرص على أخذه وعلمه .. ” .
إذن فالعلم بمعناه هو إدراك ما ليس بحاصل ، وفي شموليته هو إدراك أولاً ، ثم معرفة ثانياً ، ثم تحصيل وأمتلاك لزمام الأمور وإستخدامه طواعية ويسر ثالثاً .. وعلى أساس هذا التصور للعلم بنى ابن خلدون علمه الجديد ” علم العمران ” ، ومهمته البحث في العوارض الذاتية التي تلحق بالإجتماع البشري ، ونتعرف على مفهوم العمران في الرؤية الخلدونية إنطلاقا من النص الخلدوني نفسه ، وذلك لأنه مفهوم قاعدي في هذا الفكر يمكن أن نعبر عنه بـ ” حياة مجتمعية “ كاملة ، أي كل ما يوجد في الوجود المادي والفكري والروحي لنفس البيئة البشرية .. فيذهب ابن خلدون في ذلك إلى أن الإجتماع الإنساني ضروري وهو الذي يعبر عنه بـ ” الإنسان مدني بالطبع ” .. أي لابد من الإجتماع الذي هو المدنية ، وهو معنى العمران ، وهو مرتبط عنده بمفهوم الحضارة ، فهي نتيجة حتمية للعمران تتفاوت بتفاوته ، ويعتبرها ابن خلدون غاية العمران ونهاية عصره ، بل وإنها مؤذنة بفساده بإعتبارها تعني التفنن في الترف وإستجادة أحواله ..
وهكذا ، فإن ابن خلدون كا ن يهدف إلى معرفة المجتمع ، وأستبدل الإشكالية الأخلاقية الميتافيزيقية بإشكالية المعرفة ، أي إنه وجد توازن محسوب بين المنهج العلمي التجريبي وبين الحتمية القدرية الإيمانية ، فلم يضع علماً ليعطي للمجتمع أتجاهاً جديداً ، بل وضع علماً ليدرس كيف تتطور المجتمعات ذاتياً .. فعلمه يبحث عن الواقع المجتمعي وليس متطلعا لمثل عليا ، ينطلق من دراسة الظواهر في حد ذاتها لا لبيان ما ينبغي أن تكون عليه . ويقسم ابن خلدون العمران إلى نمطين : العمران البدوي والعمران الحضري دونما تعارض ، بل على العكس ، إنهما شكلان متكاملان للحياة .. ويشمل ميدان العمران البشري كل حركة تنتج داخل المجتمع وكل ما له علاقة بالسكن والسلطة والمعاش وتناقص السكان وتزايدهم وانقسامهم ، كما يشمل نشاط العلوم والصنائع والحرف ، ولكل من نمطي العمران حاجيات معينة تستلزمها طبيعة المرحلة التي يعيشها المجتمع .. وليس هناك حد فاصل بين النمطين بل بينهما علاقة جدلية وإن صراعهما يكون اساسا حركة العمران .
طبيعة العمــران ..
يذكر ابن خلدون في مطلع نظريته ” أن الإنسان مدني بالطبع ” ، ويفسر ذلك بأن الإجتماع الإنساني ضرورة لبقاء الإنسان وأستمراره ، وتلك هي المنظومة الأولية التي قام عليها ” علم العمران ” .. وما دام هذا العمران قد تحقق بنشأة المجتمع ، فإن أستمرار هذا المجتمع يتطلب وجود وازع – حسب رؤية ابن خلدون – فالإنسان مجبول على طبائع حيوانية وظلم ، وسيعمد بعضهم إلى منازعة بعض حتى يتفكك المجتمع ، فتكون الفوضى ، ومن هنا كانت ضرورة الدولة التي هي الوازع .. ” وهي العنصر المالك الضابط والقامع والمنظم .. “ ، وهذا المالك يحتاج إلى عصبية من الأعوان تكون آليته لتثبيت قوة الدولة والملك ، وبذلك فإن أشكالية المجتمع وعمرانه في النظرية الخلدونية تقوم على أساسين هما :
أولاً : ضرورة الدولة أو حتمية الملك ، وآليته العصبية .
ثانياً : الحفاظ على النوع كمهمة إجتماعية وضمان عدم تسرب عوامل الأنهيار والتضعضع إلى هذا الإجتماع الإنساني الذي هو العمران ، وغايته الحضارة والتحضر التي هي المدينة .
إن أهمية النظرية الخلدونية للعمران بالنسبة للفكر المعاصر في كونها شهادة على العوامل الفاعلة في التجربة الحضارية في عمران المجتمعات والقوانين المحركة لها ، هذه العوامل والقوانين التي يقوم عليها ، أو يجب أن يقوم عليها كل فهم أو تفسير أو تنظير للعمران ، وهي ثلاثة عوامل أساسية يعتبرها ابن خلدون مجتمعة ذات أثر حاسم في التجربة الحضارية والعمرانية ..
- العامل أو المحور الإيديولوجي : ويعنى به التشريع ـ سواء كان بنبوة أو بدعوة سياسية اصلاحية ـ ، فالسياسة عنده تكون مستوى بنيوياً للعمران لا تختلف عن المستويات البنيوية الأخرى أو تتمايزعنها فهي واقع إجتماعي وضرورة من ضرورات المجتمع ، ومشروطة بعوامل أخرى على رأسها العصبية ؛ ذلك الأطار التنظيمي أو آلية التنظيم الطبيعي لكل حركة سياسية أو إجتماعية للعمران ..
- العامل أو المحور الإجتماعي : ويرتكز أساساً – ويكاد يكون منفرداً – على العصبية التي لعبت دوراً أساسياً في عمران المجتمعات ، ويبقى التناقض بين العصبية والملك هو المحرك الأساسي لصيرورة العمران والحضارة بمعنى إها محرك الديالكتيك المغلق بين البادية والحاضرة والتطور بين نمطي العمران ، ولكنها ليست الوحيدة فهناك الركيزة الثانية وهي ” المدينة ” ، فحينما تتطور المدينة وتزداد ازدهاراً تنشأ بنية إجتماعية تتميز جذرياً عن بنى العمران البدائية ، وتتوالد فئات مجتمعية جديدة مما يستدعي حياة الطمأنينة وأستمرارها عند أجيال متعاقبة .
- العامل أو المحور الأقتصادي ( شئون المعاش ) : أبرز ابن خلدون أهمية هذا العامل في العمران بمستوياته ونمطيه ، وتشكل تلك نظرية كاملة لو أنها صيغت بشكل بشكل أكثر تجريداً وعمومية .. يرى ابن خلدون في هذا المجال أن السبب في أرتفاع مستوى رفاهية المجتمع وتطوره هو زيادة كمية العمل ثم تلبية لحاجيات الترف والدعة من الفائض في الإنتاج .. وتختلف طرق الإنتاج بأختلاف طبيعة العمران . ويعتمد هذا التطور وأساسه زيادة الإنتاج الناشئ كنتيجة للعمل الجماعي وتقسيم أو تخصيص العمل بينهم ، ومعه ينمو العرض والطلب ويرتفع مستوى العمران إلى الترف والرفاهية العامة .
إن عبقرية ابن خلدون تبرز في معالجتها لأثر هذه العوامل مجتمعة وتفاعلها وديناميتها .. ثم الربط بينها في منظومة واحدة متداخلة العناصر متشابكة الأطراف سماها ” طبائع العمـــــران “ .
النظرية العمرانيـــة ..
يؤكد ابن خلدون .. ” الدولة والعمران بمثابة الصورة للمادة ، وهو الشكل الحافظ بنوعه لوجودها ، وقد تقرر في علوم الحكمة أنه لا يمكن أنفكاك أحدهما عن الأخر ، فالدولة دون العمران لا تتصور ، والعمران دون الدولة والملك متعذر ، لما في طباع البشر من العدوان الداعي الى الوازع .. ” . فالدولة والعمران إذن أمران متلازمان .. كتلازم الصورة والمادة في كل كائن من الكائنات الطبيعية ؛ ومن جهة أخرى يذهب ابن خلدون إلى أن .. ” الإنسان مدني بالطبع أي لابد له من الإجتماع الذي هو المدنية وهو معنى العمران .. ” موضحاً عملية التمدين ” أن البناء وأختطاط المنازل إنما هو من منازع الحضارة التي يدعو إليها الترف والدعة وذلك متأخر عن البداوة ومنازعها .. ” . وهكذا فإن نظرية ابن خلدون حول العمران يتجاذبها محوران متوازيان لا غنى لأحدهما عن الآخر ، بل لا وجود لأحدهما في غياب الآخر وهما :
المحور الاول : الدولة وتطورها وآليتها الاجتماعية العصبية وغايتها الملك ..
المحور الثاني : التمدين والتطور من البداوة وتعبيره المدينة ..
فالمدينة والدولة صنوان متكاملان يشكلان نموذجا ثالثاً ، يخضعان لنفس القوانين خاصة ترتبط بالحركة التطورية ، وهي ما يسميها ابن خلدون بالعوارض الذاتية .. ويرى صاحب النظرية أن الدولة قوة أعلى من المجتمع وليست قوة مندمجة فيه ، يراها منفصلة عنه وأنها لا يمكن أن توجد إلا في مرحلة معينة من تطور العمران – العمران الحضري ، وكلما مر الزمن عليها أنفصلت عن المجتمع وأصبحت تمثل طبقة أعلى من سائر الطبقات ( النخبة السياسية الحاكمة ) ، فالسلطان وحاشيته بعد أن يستقر لهم الملك يتخذون الجند ليدافعوا عنهم وينفصلوا عن أفراد المجتمع . وقد خلص ابن خلدون من ذلك إلى أن الدولة علة وجود العمران كحالة مجتمعية ، وهي قرار إنساني إجتماعي لها منازع خاصة بها تحدد مسار حركتها سياسياً وإجتماعياً وأقتصادياً ، وبالتالي عمرانياً وحضارياً عموماً .. ومن هذه المنازع : التنافس في الخلال الحميدة وبالعكس والأنفراد بالمجد والترف والدعة والسكون ، وإذا أستحكمت من الدولة تلك المنازع ، تكاسل أهل الدولة وألفوا المذلة والأستعباد .. وأنحصرت شوكتهم ، وحل بالدولة الوهن والهرم إلى أن يُقضى عليها .
وعلى التوازي يرى ابن خلدون أن ميلاد المدينة يكون مع زيادة الإنتاج والخروج من دوامات الحاجيات الأولية بالإضافة إلى شرط قيام المؤسسة الحاكمة ، فالملك والدولة سابق للمدينة وميلادها وقيامها ، ويؤكد أنه لابد من تمصير الأمصار وأختطاط المدن من الدولة والملك . وتبقى المدينة غاية العمران التي هي نفسها غاية الملك ، ومتى وصل العمران غايته كان ذلك إيذانا بفساده وخرابه ، ففي نهاية وجود الدول فأن شيوع الظلم والفساد يقوض دعائم المجتمع فيبدأ الانحطاط والتدهور الأقتصادي والإجتماعي في المدينة .
ويؤكد ابن خلدون هنا على حتمية العدل وتجنب الظلم الذي يؤدي بالمجتمعات ويخرب العمران .. فالشريعة أو القانون عنده هي ضمان للعدالة بين الناس إذا ما تحققت تحقق بها عز الملك ، وعز الملك لا يتحقق إلا بالعمارة ، ولا سبيل للعمارة إلا بالعدل ، وأن العدل عند ابن خلدون مفروض بحكم آلهي . وهكذا صمم ابن خلدون نظرية العمران للمجتمع على أنه مجتمع الحكومة والرعية ؛ الدولة والمجتمع لبناء الحضارة وتعبيرها المدينة .. والفساد عنده نوعان : فساد العمران من حيث صورته الذي يصيب المدينة والدولة ، وفساده من حيث مادته الذي يصيب الافراد وهم مادة العمران . أما الحضارة فتعني لابن خلدون حضارة الإستهلاك بغير حساب ودون إنتاج .. حضارة أولئك الذين يعجزون عن العمل لإستحكام عوائد الترف فيهم ، إنها حياة جماعية طفيلية طافية على سطح المدينة ، وتعيش وتستهلك على حساب الرعية كلها ، وكل ذلك بفضل الجاه الذي تتمتع به الدولة من سلطة بيدها .
هكذا فالظلم مؤذن بخراب العمران سواء كان الظلم نتيجة سياسة جبائية أو أستبداد وتسلط أو تعسف على السكان ، أو تجاوز الدولة للسياسة الشرعية .. ومن أبرز أنواع العدل في الرؤية الخلدونية العدل الأقتصادي أو هو العدالة الإجتماعية ، فالظلم المؤذن بالخراب يتجاوز كل ذلك ليشمل أحتكار التجارة والرزق من ذوي السلطان وأغتصاب أموال الناس عن طريق سياسة التغريم – حسب الرؤية الخلدونية ونظرياتها .
الاشكالية العمرانيـــة والحداثة ..
إن معاصرة ابن خلدون وآنية الفكر الخلدوني اليوم ، لا تأتي من تكراره بغباء وبلا تبصر ، ولكنها تعني الوصول إلى تفسير : كيف ولماذا .. تكون الاشياء كما هي في العالم الذي نحيا فيه نحن اليوم ضمن محدودية الزمان والمكان ، وبالتالي فإن ذلك يحتم ضرورة عدم إخفاء الصعوبات التي نجابهها في دراسة مجتمعاتنا المعاصرة والحديثة الآنية ، بتقديس ما قدمه السلف وعلى رأسهم ابن خلدون نفسه .. بل بالعكس تماماً فإن ذلك يعني أن تكون لدينا الجرأة ، كما فعل ابن خلدون ، على طرح أفكار جديدة تسمح بالتخلص من زمن الأنحطاط الحضاري ، مستندين في ذلك إلى حالة المعارف الآنية والإشكاليات الحادثة ، دون أن نفقد مع ذلك أو نهدم دعائم وثوابت المجتمع الحضارية ، أو نتجاهل أو نجهل موروثات هذا المجتمع وتراثه .. هي رؤية توافقية تتجه إلى الحاضر وتتطلع إلى المستقبل بنفس المنهجية العلمية والأهتمام التي أتجهت به إلى الماضي أو أكثر حتى يغدو في الإمكان جعلها معاصرة وتحويلها إلى مشروع قابل للتحقيق ، للإنماء والتطوير ، وتبقى رسالة من الماضي إلى المستقبل .. وهذا لن يتم إلا إذا تحررنا من عوائق الفكر الموروث وبالتالي كسر عوائق تطور مجتمعاتنا وتحرير عقولنا من سيطرة اللا معقول والسلاسل والقيود الفكرية والمجتمعية التي جعلت الخلدونية ماضوية وليست مستقبلية مما يهددنا نحن بذات المصير ..
فإذا كان ابن خلدون قد أكتشف أن الحركة الظاهرة للمجتمع هي حركة دورية للدياللكتيك المغلق ، فهو لم يفسر السبب لهذا الشكل الدائري للحركة العمرانية ؛ وإنه من الضروري لنفهم الدورة السياسية لهذا المجتمع أن نعيد هذه الدورة في حركتها الأساسية إلى قاعدة تحليل علاقات الإنتاج والتبادل التي تتطابق مع حالة معينة من تطور القوى داخل المجتمع : القوى الإجتماعية والقوى الأقتصادية ، هذا هو التناقض اللاعدائي بين الأرستقراطية القبلية والأرستقراطية المدينية والذي يحدد الحركة الدائرية للدولة . وبالتالي الحركة الدائرية للمدينة وعمرانها .. إن تناقض هاتين الطبقتين الاجتماعيتين لأنهما حاملتين لعلاقات إجتماعية مختلفة ، والفرق الجوهري أن الإرستقراطية القبلية تقوم على أساس العلاقات البنيوية الإجتماعية الداخلية ، وتقوم أرستقراطية المدينة على العلاقات الأقتصادية الخارجية .. هناك تماسك وترابط في الأولى يضمن لها الأستمرارية ، وهناك صراع وتفسخ يؤدي بالثانية إلى التفتت والأنهيار ..
أما الأساس المادي الذي يقيم عليه هذا المجتمع ( المديني ) حضارته هو الجاه المفيد للمال ، وتكون القوة العسكرية هي آلية تطور المجتمع عمرانيا ، أو هي قيام الدولة وعمران المدينة ، وهكذا كانت المؤسسة العسكرية الإجتماعية تاريخياً هي محور هذه الحركة المجتمعية وأداتها بل احياناً المحرك الأساسي والآلية الرئيسية لهذا التطور والمحور المشترك في تنظيم الدولة وعمران المدينة في مجتمعاتنا العربية .
وتطرح الحقبة الحديثة أمامنا أشكالات من نوع آخر من الناحية التاريخية بدأت من العصر الوسيط مع الدولة العثمانية ، وظهرت نتائجها في وسط القرن التاسع عشر مع تمثل وأستعارة مفاهيم الدولة الأوروبية في المشرق العربي .. ومن ملامح ذلك تدعيم مبدأ الدولة وضرب القيادات الوسيطة ( الطبقات المتوسطة ) بل وإلغاء وتعطيل دورها في المجتمع المديني لصالح الأجهزة المرتبطة مباشرة بالحكم والدولة .. وبأختصار فإن الامر كان يعني في غايته إحلال مبدأ الدولة على حساب المدينة ومجتمعها وأستقلاليتها ، اي تحديداً إلحاق المجتمع بالدولة ، ولدينا في تجربة محمد على باشا في مصر النموذج على ذلك تحت إدعاء تحديث المجتمع من أجل خلق الدولة القوية ، التي ليست كذلك الا بمقياس إضعاف ما تفرضه خصومها أي ممثلي المجتمع المديني ، وتبعاً لهذه الخطة حدث تدمير منهجي للمؤسسات المدينية لصالح مؤسسة الدولة وأجهزتها التي أوكلت إلى نفسها مهمة مراقبة المجتمع وتدبير شئونه بنفسها ، الحالة التي أستمرت إلى يومنا هذا .
والمفارقة هنا تكمن في أن ابناء المجتمع المديني من الأهلين ، حين ما بدأوا ينخرطون في جسد الدولة ، كانوا يقدمون مبدأها ويرفعونه فوق المجتمع الذي أنبثقوا منه . وحين أخذ أفراد من الأهالي يحلون في الإدارة ويلحقون بأعمال الحكومة أسهموا قبل سواهم في تعزيز مبدأ الدولة على حساب المجتمع المدني ، وتندرج ضمن هذا السياق أعمال رفاعة الطهطاوي ومن بعده جمال الدين الافغاني ومحمد عبده وآخرين فقد عملوا قصدا أو بدون قصد على بلورة مفهوم أن الدولة ترتفع فوق المجتمع وتحكمه ..
واليوم يستيقظ دعاة السلفية أن الدولة أبتعدت عن التشريع والموروث الاسلامي ، بل وإنها كانت كذلك في الماضي القريب وليس في الحاضر الحادث اليوم فقط ، وهكذا فالتاريخ عندهم لم يعد صالحا وحده كإطار مرجعي ، وهنا تخلى السلفي عن ” التاريخ ” وبالتالي تحرر مما كان يدفع به الرواد من العصر الوسيط وحتى المعاصر إلى الأنفتاح والتجديد وأنتكص إلى الوراء ليصيح صيحة الخوارج الأولى ” لا حاكمية إلا لله ” ، لم يعد الآن يطلب النهضة ولا التجديد ولا الأصلاح ، فهو يقرأ التاريخ في الشرع ، ولكن ليس التاريخ الماضي ، جاعلاً من الجيل الأول من الصحابة وتابعيهم ” النبع الصافي ” وهو صورة المستقبل المنشود ، إطاراً مرجعياً وحيداً .
وفي المقابل أنصرف الليبرالي العربي في تزامن مع السلفي إلى الممارسة العملية للسياسة في الحاضر ، بينما كان السلفي يمارسها نظرياً في الماضي ، فقد أخذ الليبرالي يتخلى تدريجيا عن اطاره المرجعي الأصلي الغربي ( الأوروبي ) وأنتزع ” التاريخ ” من يد السلفي ولكن ليس التاريخ الإسلامي بل التاريخ العربي ( القومي ) .. لقد أصبح يعمل من أجل بناء الحاضر والمستقبل ودولة الحاضر آخذة بنفسها في علمنة مؤسساتها وأسسها ، لعلمنة الحاضر .
ومن هنا غاب المشروع الحضاري عن كل من السلفيين بمرجعهم الشرعي الإسلامي وعن التقدميين الليبراليين بمرجعهم القومي العربي ، وغبنا نحن عن الحضارة نفسها وأصبحنا مستهلكين لما تنتجه حضارات الآخرين من تقنيات وصناعات وثقافة وأيدلوجيات نضيع معها في صراعات لا تصل بنا إلى شيئ لأنها لا تبحث عن شيئ سوى أن تخرجنا من حضارة اليوم حتى لم يصبح لنا فيها دور على مستوى الأفراد أو المؤسسات الرسمية أو المدينية . لقد غاب عنا دورنا الحضاري والدعوة لإحياء هذا الدور تبدأ من فهم المشروع الحضاري لأمتنا مدناً وأمصاراً .. ودولاً .
فإذا كان المثقف ” الليبرالي ” يريد أن يلحق المجتمع بالدولة ، فإن ما يريده ” السلفي ” هو إلحاق الدين والمجتمع بالدولة التي ينشدها ، أن ما يجمع الأثنان إيمانهما المشترك بأولوية الدولة وأرتباطها بها كهدف منشود مهما أختلف شكلها أو رسمها .
إن الصراع بين المفهومين أو الأتجاهين صراع حول الوصول إلى الدولة المهيمنة في غياب المشروع الحضاري لها أو دون الأمساك بآليات تطور المجتمع في سلمه التطوري سواء كانت آليات إجتماعية أو أقتصادية ، إنه أختلاف في الرأي حول كيفية هيمنة الدولة على المجتمع المديني وتعبيره المادي المدينة والدولة في ذلك تترفع عن المدينة والمجتمع معاً .. وبالتالي فليس الهدف لأي منهما إيجاد صيغة تعادلية متوازنة ومعاصرة في معالجة الدولة وأرتباطها بالمدينة ، حتى تعود لكل منهما هويتها الحضارية ولكن الهدف هو هيمنة الأولى على الثانية سواء بأسم سيادة القانون أو حتمية الشرع .. وليس الهدف من هذا الفصل بين المؤسسات السياسية الرسمية للدولة والمؤسسات المدينية في المدينة ، لأن التجربة التاريخية قديمها وحديثها أثبتت أن النهاية المحتومة هي هيمنة ” الدولة العسكرية ” الغالبة على الدولة والمدينة لمصالحها في غياب المشروع الحضاري لهما .. والنتيجة هي إنهيار مؤسسات الأثنين معاً في تتابع محتوم .. وهــــو ” خراب العمران “.