بقلم : طارق والي …
إنه لا يمكن فهم عمران مصر وعمارتها بغير تاريخها وجغرافيتها ، حيث أن العمران يفقد كثير من معناه ومغزاه ومحتواه بغير التاريخ والجغرافيا معاً ، ولا نقصد هنا التفسير العمراني للتاريخ أو التأويل الجغرافي للعمران .. إنما المقصود البحث في الموروث الديناميكي متعدد الطبقات أو الأعماق ، أو نقول البحث في موروث الجذور والأصول الذي يتبع الماضي في الحاضر ويصل الحاضر بالماضي ويضيف إلى الراهن تجارب يتضاعف بها أعماقاً وأبعاداً وأفاقاً في المستقبل ، كماً وكيفاً … وهذا هو مدخلنا في دراسة تطوير المناطق التراثية وتأتي في مقدمتها منطقة أهرامات الجيزة ضمن منظومة أهرامات الحضارة المصرية القديمة ، والتي أرتبطت مكانياً وزمانياً بمنف عاصمة مصر على مدى يزيد عن ثلاثة آلاف سنة .. ويبقى أن نعي أولاً هذا المعنى وذلك الوجود للعاصمة ..
وتبقى عاصمة مصر .. وحاضرة البلاد عند مفترق ما بين الجغرافيا والتاريخ ..
محطة تجمع بين إنغلاق أختياري ..
وإنطلاق محتـوم ..
إنغلاق في وادي ضيق .. محصور .. محكوم ..
وادي تحيطه مرتفعات لتحميه من الشرق والغرب ..
ينحدر فيه شريان الحياه ، من البعيد هناك .. وهو القادم من البعيد المطلق ..
يجري النيل خلاله هابطاً مصر من أعالي الجنوب آمناً ومستقراً ..
ساكناً رغم حيويته .. وتستقبله مصر ويقدسه المصريون تتزاوج إرادة الانسان مع حيوية النيل فتولد الحضارة ، تبدأ هنا وتنتهي هناك ..
إنطلاق إلى دلتا متسعة .. مفتوحة .. منبسطة ..
دلتا هي منتهى شريان الحياة ، تحمل للعالم معنى وقيمة الحضارة ..
ويعلن بعدها النيل نهاية الرحلة هنا في الشمال ، يقبل السقوط أو الغروب بإيمان مطلق بأنها أنتقال من حال إلى حال مع رحلة الخلود ..
دوماً هناك شروق بعد كل غروب .. وحتماً لابد من الغروب بعد كل شروق ..
رحلة دوران مع الشمس والنيل والحضارة والإنسان ..
وهنــــــــــــــا كانت عاصمة مصر بين النهر والجبل ..
العـــــــــاصمة والنهـر .. كان عمران مصر في عموميته ، وحاضرة الديار في خصوصيتها على علاقة سببية مع النيل به تشكل عمران العاصمة والديار ، مع واديه وعند مصبه ، علاقة وجود ما بين عطاء الطبيعة وابداعيات الأنسان في الوجود . عرف المصري القديم أن ايقاعات النيل وفيضانه السنوي هي ظاهرة شمسية ، ولذلك أرتبط التقويم المصري القديم بالسنة الشمسية ، والسنة الشمسية المصرية ( القبطية ) تبدأ في أول شهر توت ( 8 أو 9 سبتمبر ) جعلها المصري اثني عشر شهرا طول كل واحد منها ثلاثون يوماً يضاف إليها أيام النسئ وهي خمسة في ثلاث سنوات متوالية وستة في السنة الرابعة ..
هنا كان النيل وفيضانه من جديد المنظم لهذا التقويم ، وتولد عاصمة الديار المصرية مع النيل ورحلته عند نهاية الوادي الضيق ورحلته إلى المصب ، وبعدها تنبسط الأرض .. وتنفتح هنا عند هذا الموضع من الوادي سلاسل الجبال الشرقية والغربية للنهر ، وتعلن الجغرافيا عن أحدى ركائز الطبيعة المصرية وعبقرية وجودها التي خصها بها الله سبحانه وتعالى وعرفها المصري بفطرته أو علمه وأتبع معها حضارته وعمرانه .. فكانت هنا بوابة الجنوب إلى الشمال أو مخرج الوادي إلى الدلتا والبحر .. هنا كانت منف وعين شمس ( أوون ) .. وهنا كان حصن بابليون والفسطاط والقاهرة ؛ عواصم مصر أو بالأحرى متتابعة عاصمة مصر التي تجاور النيل وتتوازي مع الجبل خاصة في شرق الوادي حيث دوماً ميلاد الشمس والحياة .. ومن جهة أخرى في المقابل توجد هضاب الغرب حيث ترتفع متتابعة الأهرامات شواهد ابداعيات الانسان من حضارة مصر القديمة عند خط الخلود في الغرب حيث تنتهي دورة اليوم وتنتقل الشمس في رحلتها السفلية ، لتعود من جديد إلى شروق ، متتابع مع غروب متلاحق .. إنها دورة وحراك يومي من الشرق إلى الغرب ، كما كان حراك النيل من الجنوب إلى الشمال سنوياً بشكل موسمي ليخرج من هذه البوابة إلى الأفق الممتد ..
وهنا كانت العاصمة قبل أن يكون عمرانها وسكانها ..
العـــــاصمة والجبـل .. تمثل الهضبة شرق النيل أحد مكونات المعادلة الجغرافية والتاريخية ، عندها تشرق الشمس معلنة عن يوم جديد في حراكها ودورتها . وحافة تلك الهضبة ومنحدراتها والتي تكون حادة في مواقع وهينة في مواقع أخرى تمثل أحد المحددات لنمو العمران ، وتعرف الهضبة بأسماء متعددة أشملها جبل المقطم وإلى الجنوب منه جبل طرة وإلى الشمال منه الجبل الأحمر ، وتقطع هذه الهضبة أودية من أزمان جيولوجية ومناخية سابقة تشكل طرق أرتقاء إلى سطح الهضبة منها أودية حوف قرب حلوان ودجلة قرب المعادي والدويقة شرق القلعة .. وتلتوي طبقات الأرض المكونة لجبل المقطم في شبه قوس متوسط الأرتفاع حيث يبلغ أرتفاعه نحو ما بين 150 إلى 250 متراً ، وينهي طرف القوس شمالاً عند ـ مصر الجديدة الحالية ـ وجنوباً بالقرب من مصب وادي التيه عند المعادي ، وتقع جنوبي المعادي هضبة متوسطة الأرتفاع أعلى قممها جبل حوف ويبلغ ارتفاعه 375 متراً ؛ وتتكون تلال المقطم من الحجر الجيري الرسوبي الذي يدل على أنها كانت قديماً مغمورة بمياه البحر . ويقل ارتفاع الجبل في نهايتي القوس من الشمال والجنوب .. وتتباعد الهضبة تدريجياً إلى الشمال الشرقي أبتداء من المقطم إلى الجبل الأحمر في صورة منحدرات وعرة وحادة تظهر في مناطق الجيوشي والقلعة .
أما الهضبة الغربية للنيل وهي تمثل حد الأفق لبداية رحلة الشمس في العالم الآخر التحتي مع الغروب ـ وهو ما يرتسم عنده وبه الحد أو الخط والمحور الأفتراضي للخلود ؛ كما كانت الهضبة الشرقية الحد للميلاد الجديد أو العودة الحتمية للشمس في حراكها ودورتها اليومية مع الشروق .. وما بين الحدين يجري النيل في الوادي من الجنوب إلى الشمال في حراكه ودورته السنوية . وترتفع الهضبة الغربية فجأة عن الوادي المزروع إلى أرتفاع حوالي 65 متراً ، وسطحها يكاد يكون مسطحاً ، بالإضافة أنه يمكن الصعود بسهولة إلى الهضبة من وديان كثيرة تشكل فيما بينها مرتفعات ممتدةعلى هيئة أصابع تناظر تلك الموجودة في الشرق وإن أختلفت عنها في البنية الجيولوجية أحياناً وفي الأرتفاعات الطوبوغرافية أحياناً أخرى ..
وهنا كانت العاصمة قبل أن يكون عمرانها وسكانها ..
ومع عمران العاصمة وقيام الحضارة ، هنا عند الهضبة الغربية شيد المصري القديم الأهرامات من الجنوب إلى الشمال أوتاداً أو منارات أو مراصد …. لم تضح بعد ماهيتها ودورها ووظيفتها الحقيقية في حينها ، ولكن من المؤكد والراسخ لكاتب تلك السطور إن تلك المعالم المعمارية لعبت دوراً حضارياً وحياتياً يتكامل مع نقط أو بؤر معلومة لها مدلولاتها المعرفية عند المصري القديم ولكنها للأسف لم تصل إلينا ، ومن جهة أخرى لم نعي نحن بالتالي حقيقة الأهرامات وعبقرية وجودها ضمن تلك المنظومة الثلاثية .. النيل والجبل والمدينة رمز الحضارة والتمدين ، وأعتمدنا على فرضيات أو نتائج ظاهرة وأغفلنا بواطن الأمور فتاهت الحقيقة أو تهنا نحن عنها مكتفين بقدسية ان تلك الشواهد المعرفية بقدسيتها هي جبانة العاصمة .. ويقسم المتخصصون متوالية الأهرامات ــ عند منف المحطة الفاصلة لنهاية الوادي ــ إلى عشرة مجموعات في متوالية مكانية من الجنوب إلى الشمال ولكنها في ترتيب زماني مخالف لتلك المتتالية المكانية .
ويتعذر علينا أن نفهم هذه الأهرامات على حقيقتها إلا إذا درسنا أرتباطها بما كان سائداَ في مصر القديمة من عقيدة دينية .. ومن بيئة معرفية وعلمية .. ومن حياة مجتمعية ومعيشية .. تجسدت في حضارة المصري القديم في الخلود وأبدية الوجود .. وتمثلت عنده في سعادة الـ ” كا ” ، وهي كلمة مصرية قديمة ــ بقدر محدودية تشكيل حروفها ولكنه يصعب التعبير عنها بلغاتنا الحديثة بكلمة واحدة ؛ فهي تعبير يشمل ” ذات ” الانسان بأكملها إذا أعتبرناها وحدة يمكن فصلها إلى حد ما عن الشخص نفسه ، وهي تقابل في بعض الأحيان ” الشخصية ” ، ” الروح ” ، الأستقلال الفردي ” ، ” الطباع ” ، وبل من الممكن أيضاً ” حظ ” الانسان أو ” مكانته ” .. وفي عقيدة المصري القديم كانت الـ ” كا ” تتحد مع النجوم الثابتة في النصف الشمالي من السماء ، وكانت الأبدية في الحياة الأخرى ذات صلات وثيقة بعقيدة الإله أوزيريس ، ومنذ أقدم العصور كانت عقيدة الشمس هنا في مصر الحضارة ، فنجد في معبد هليوبوليس رمزيةلإله الشمس في صورة المسلة أستعاضوا عنه برمز لطائر الفونكس ( كان يسمى في مصر القديمة بنو BNW ) الذي يجثم فوق ما كانوا يسمونه الـ ” بنبن ” وكان ذا شكل هرمي ومن هنا قد نستقرأ العلاقة بين الـ ” بنبن ” نفسه وعقيدة عبادة الشمس وهي تمثيل لمعراج الانسان إلى السماء بقدر ما هي إستقراء لتلك الدورة اليومية للشمس ذاتها في حياة الانسان عقيدة ومعاشاً .. فلا تنفصل الحياة الدنيوية ومتطلباتها عن الحياة الأخرى وإلتزاماتها ، فهي دورة متكاملة للانسان في عالم الخلود .
حقاً قد أغفلنا كمعماريين قراءة تلك المنظومة وأستيعابها وكينونتها ، إنها ترسم علاقات بعضها مرئي وشاهد إلى اليوم وظاهر لكل متأمل عاقل ومنفتح ببصره للمعرفة ، وبعضها الآخر خافي مقصور على كل باحث ببصيرته عن الحقيقة ؛ وبين البصر والبصيرة .. والظاهر والباطن ، يمكننا أن نركن يقيناً إلى وجودية هذه المنظومة المعرفية والحضارية ساكنة في موروثاتنا القديمة تربط بين دورة وحراك الشمس اليومي وحراك النيل ودورته السنوية ، وتأتي محطة نهاية حراك النيل ورحلته هنا عند هذه البوابة .. لتكتمل معه وبه المنظومة الحضارية والطبيعية .. بين أبدية عطاء المكان وعبقرية وأبداع الأنسان .. ويتجسد الفهم الواعي لهضبة الأهرامات بالجيزة ضمن هذه المنظومة الأشمل ، وهو مدخلنا لتطوير تلك المنطقة على المستويين الشمولي ضمن هذه المنظومة ، ومن جهة أخرى على المستوى الخاص بمجموعة أهرامات الجيزة ذاتها وأستقراء بنيتها المعمارية المتمثلة في المنظومة الهندسية التي شكلت وجودها في علاقة مقننة ومحكومة وضعها المصري القديم ، وعلينا الاجتهاد في الكشف عنها ، لنتواصل معها ونتمكن من الدخول إلى عمارة المكان باحترام للموروث والتناغم الحذر معه وتقديمه للاجيال المعاصرة والقادمة على الصورة التي كانت والتي يجب أن تبقى ..